لعلك قد لاحظت إضافة علامة الاستفهام إلى عنوان هذه المقالة، اطمئن ليس في ذلك خطأ مطبعي، وإنما هي علامة دائما ما أجدها تشع في فكري وتحيك في صدري كلما نظرت إلى واقعنا التربوي والاجتماعي. أعتقد جازما أننا جميعا في حاجة إلى أن نضع هذه العلامة نصب أعيننا ونحن نتمعن في حقيقة الدور الذي تقوم به مؤسسات البناء في المجتمع. ما الذي تحقق في مدارسنا، كلياتنا، جامعاتنا فيما يتعلق بعنوان هذه الافتتاحية. أَنْظر إلى علامة الاستفهام هذه في هذا العنوان كالمؤشر الموجه إلى قلوبنا ليوجه بدوره أبصارنا إلى ضرورة أن نجيب عن هذا التساؤل الآن وليس غدا، نحن وليس غيرنا من خبراء العالم. دعونا نسأل بأريحية وشفافية بالغة أنفسنا؛ هل نحقق نحن كأفراد التميز في أعمالنا ومهماتنا اليومية؟ وهل نتيح ذلك لأبنائنا وطلابنا؟ قبل أن نجيب، اسمحوا لي بتوضيح حقيقة لا أظن أحدا يجهلها ولكن قد يغفلها؛ هناك فرق جلي بين أن نعمل بصورة جيدة أو حتى متقنة وبين أن نعمل بأفضل طاقاتنا وقدراتنا الذهنية الإبداعية. أتصور أن التفريق بين الصورتين عامل رئيس لاستيعاب فكرة التميز، ولعله من الجلي أن مؤسساتنا التربوية بل والاجتماعية تتبنى الصورة الأولى فقط، وتهمل بل وفي أحايين كثيرة تحارب الصورة الثانية، وهو ما يفسر معضلة عدم انتشار ظاهرة التميز في مجتمعاتنا، وإن شئت فقل ندرة وجود “سوبر ستار” حقيقي بيننا.
أنا لا أشك أبدا في وجود طاقات بشرية عالية الجودة فيما بيننا تضاهي أعلى المعايير والمواصفات العالمية إن لم تتفوق عليها، إلا أن المشكلة ليست في انعدام وجودها ولكن في صناعتها. إن من فضل الله عز وجل على البشرية وكمال عدله أنه لم يختص جنس ولا لون ولا عرق بقدرات عقلية عالية دون الآخرين، ولكن الشعوب والأمم تتنافس في تلمس هذه القدرات في أفرادها وتحمل مسئولية بعثها ومن ثم تهيئة البيئة المناسبة لصناعتها.
صناعة التميز مسئولية من؟ لا أشك أن هذا السؤال أكبر من أن يجاب عنه بصورة كافية في هذه السطور، ولكن لما لا نجمل الإجابة في عبارة فضفاضة لنقول إنها مسئولية الكل. ولما لا نقول أن التصور الذي يحمله المجتمع بسائر مؤسساته عن التميّز والمتميز عامل رئيس في صناعته. أليس من الحكمة – إن وافقتني على هذا الرأي -أن نبدأ بصناعة هذا التصور في قلب مؤسساتنا التربوية والاجتماعية والإعلامية؟
إن صناعة النجوم أصحاب القدرة على تقديم إسهامات عميقة ومهمة في حاضر المجتمع ومستقبله ليس بشأن ثانوي أو اختياري بالنسبة للشعوب التي تعد أمر تقدمها وتفوقها أول أولوياتها، وإن وجود أكثر من “سوبر ستار” حقيقي أصيل ليس بأمر يمكن حدوثه بالتمني أو المصادفة أو بمجرد مرور الزمن، بل المسألة في حاجة إلى “صناعة” مقصودة موجهة على بصيرة وذات رؤية واضحة تلامس حاجات المجتمع الحقيقية.
في بلادنا، تباشير صناعة التميز ظهرت – ولله الحمد والمنّة -بنبتة غرستها أيدي قادة هذه البلاد، وانبرى لرعايتها رجال ونساء مخلصون من أهل العلم والفكر والمال لتثمر عن إنشاء مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين، والتي تعد بحق ظاهرة فريدة من نوعها على النطاق الإقليمي والعالمي، وتتوالى التباشير بافتتاح إدارة لرعاية الموهوبين في وزارة التربية والتعليم أكبر المؤسسات التربوية في هذه البلاد الفتية.
نعم .. صناعة التميز بدأت في بلادنا بفضل الله عز وجل، ولكن ثمة حقيقة مهمة يجب عدم إغفالها مع نشوة البدايات وتلمس حلاوة الطريق، ألا وهي ضرورة احتراف هذه الصنعة، إذ لا مكان في هذا المجال للهواة والمتنزهين أولي النفس القصير والمتطلعين إلى المكاسب السريعة والمناظر الخلابة ريثما يشربون فنجان من القهوة. صناعة التميز في حياة الأمم والشعوب الواعية خيار استراتيجي طويل المدى تضعه نصب أعينها جميع مؤسسات المجتمع خاصة تلك التي تعنى بالتعامل مع العقول.
صناعة التميز؟ تساؤل يجب أن يبقى صامدا في مواجهة الكمّ، تساؤل يجب أن يكون محركا للهمم لتعمل، تساؤل يجب أن يستعمر قلوبنا ليصبح همٌ نحمله نروح ونغدو به، نبحث عمن هو قادر عليه، نهيئ البيئة المناسبة له، نسهم معه في هذه الصنعة.
إن صناعة التميز لا تنحصر في الموهوبين ويعود ذلك لتعدد المواهب وتفاوت درجات الموهبة في المجتمع. التميز عبارة عن ثقافة يتم زراعتها في المجتمع عبر الكثير من الوزارات ومن اهمها وزارة التعليم. وإذا لم يكن لأي وزارة رؤية واقعية واسترتيجات للوصول الى هذه الثقافة فلا مجال للوصول اليها عبر الإعلام او مؤسسات المجتمع وذلك لأن الإعلام غير مؤهل أن يحمل هذه الرسالة بكوادره الحالية فنحن نحتاج الى إعلام واعي بالمتطلبات الثقافية، ولا أعني بالثقافة المصطلح العام لكثرة القراءة ولكن أعني به الثقافة التخصصية. وذلك ان من يتولى طرح هذه الثقافة في الإعلام هم من أرباب المهنة وما حولها وحاجة التميز الى التخصصية في افعلام مثل حاجة الوزارات. وأما مؤسسات المجتمع التخصصية فليس لديها الذراع ولا الموارد لفرض هذه الثقافة على المجتمع خصوصاً في المراحل .
ولا شك أن وزراة التعليم هي المعنية الأولى باحتضان هذه الثقافة ويلزم ان تكون ثقافة التميز هي الرؤية الأساسية لها بحيث تهيأ لها الموارد التي تفي بمتطلبات هذه الثقافة ومن ثم توضع الإستراتيجيات الموصلة للرؤية.
هذه الثقافة هي تطبيقية بطبيعتها ولا يمكن ايصالها عبر ورش عمل يدخل فيها المتخصص وغيره ضمن اطار مؤسسات المجتمع ولا يمكن بالطبع ايصالها عن طريق سلسلة من المقالات اوالحلقات او الأفلام الوثائقية. التطبيق يعني ممارسة العمل وهذه الممارسة عادة ما تكون عملية بنائية متوالية.
ومما تجدر الإشارة اليه هنا ان التطبيقات التعليمية العلمية والأدبية والتربوية في المدارس والجامعات لا تتجاوز الثلاثين بالمئة. فكيف يمكن الوصول الى ثقافة التميز في التعليم وهو لم يقترب بعد من الحد الأعلى للتطبيق. وبعبارة بسيطة “خريجوا التعليم لا يعلمون عن تطبيق ماتعلموه الا النزر اليسير”. لذلك فإن اولى خطوات التميز هو الوصول الى الحد الأعلى من التطبيق وذلك بوضع المتطلبات ثم تهيئة الموارد الكفيلة للوصول الى العتبة الأولى لزراعة ثقافة التميز. وهذا لا يعني التوالي في هذا العمل ولكن التوازي والموازنة حتى تنحسر الفجوة بينهما.